"فخ جديد".. هل بدأت روسيا عملية تحول إستراتيجي من سوريا إلى ليبيا؟

"نظرة الكرملين إلى حفتر باعتباره نمرا من ورق ولا ثقة فيه، تؤكد عدم التكافؤ في علاقتهما"
“روسيا بصدد إعادة تموضع هش من سوريا إلى ليبيا، ويجب على الغرب توخي الحذر من الوقوع في فخ جديد”.
هكذا بدأ "المعهد الأطلسي" أحدث تقاريره عن الورطة الإستراتيجية التي تواجهها روسيا في الوقت الراهن عقب سقوط نظام بشار الأسد في سوريا.
تحول تاريخي
وذكر المعهد أن "سقوط دمشق يمثل تحولا تاريخيا، فبعد أن كانت سوريا ذات يوم محورا لإعادة تعزيز مكانة روسيا عالميا، أصبحت الآن تجسد بوضوح هشاشة التحالفات المبنية على الإكراه والمصالح العارضة".
وأضاف أن "بشار الأسد -الذي ظل مدعوما لسنوات بالطيران الروسي والمرتزقة وحملة دعاية مكثفة- لم يتمكن من الصمود أمام وطأة المعارضة الداخلية وتحولات المواقف الخارجية".
وتابع: "بالنسبة لموسكو، هذا الانهيار ليس نكسة فحسب، بل أيضا فرصة للتكيف، وهو ما بدأ بالفعل مع تحول قواتها ومعداتها جنوبا في البحر الأبيض المتوسط".
وأردف أن "نقل روسيا لقواتها ومعداتها إلى شرق ليبيا يشير إلى إعادة ضبط إستراتيجي، حيث ينتظر قائد ما يُعرف بـ "الجيش الوطني الليبي"، خليفة حفتر، في برقة، مراهنا على موسكو".
وأوضح أن "الأنظار تتجه إلى حفتر مع محاولة الدول الغربية استمالة أفراد عائلته، لردعهم عن دعم التحرك البحري الروسي في البحر الأبيض المتوسط".
هذا التحول من أنقاض دمشق الأسد إلى ليبيا -وفق التقرير- يكشف عن منطق أعمق في السياسة الخارجية الروسية، إذ لا يتعلق الأمر باستبدال وكيل بآخر، بل ضمان استمرارية النفوذ.
ويرى المعهد، أن "عمليات موسكو في سوريا لم تكن مجرد تأمين مكاسب ملموسة، بل كانت أيضا مقاومة للتوسع الغربي، وعندما انطلقت الطائرات الروسية من قاعدة حميميم إلى ليبيا عام 2019 لدعم هجوم حفتر على طرابلس، كان ذلك بمثابة بروفة هادئة للانتقال الإستراتيجي الأوسع الذي نراه اليوم".
وأفاد بأن "الطموح الروسي في البحر المتوسط ليس حديثا؛ إذ يعود إلى القرن الثامن عشر، عندما أنشأت روسيا أسطولها البحري في البحر المتوسط لتحدي الهيمنة العثمانية، واستعراض القوة".
وأضاف أن "دور موسكو في سوريا قد يتطور، لكنه لن يتلاشى، ومع ذلك، تبرز أهمية ليبيا بصفتها نقطة انطلاق لروسيا نحو إفريقيا".

إستراتيجية روسيا
وأوضح أن ليبيا في هذه الحالة "ليست خيارا بديلا بالنسبة لموسكو، بل جزءا من إستراتيجيتها لتوسيع نفوذها الإستراتيجي في المنطقة وخارجها".
وقال المعهد الأطلسي: "في الواقع، فإن أوجه التشابه بين الأسد وحفتر أعمق من اعتمادهما المشترك على الرعاية الروسية، فكلاهما شخصية استبدادية، على استعداد لمقايضة سيادة بلديهما من أجل البقاء في الحكم".
"فقد عرض الأسد على موسكو موطئ قدم ضد الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي (الناتو) ومسرحا لاختبار قدراته العسكرية، ويقدم حفتر فرصة مماثلة؛ إذ إنه وسيلة لتعطيل المصالح الغربية، واستغلال الانقسام الليبي، وتوسيع نفوذ موسكو في إفريقيا".
"ومع ذلك، يمثل كلاهما مخاطر للنهج الذي تتبناه موسكو، القائم على البراغماتية الباردة، فهما أشبه بأدوات مؤقتة أكثر من كونهما حلفاء دائمين، إذ تخفي مظاهر قوتهما هشاشة عميقة"، بحسب التقرير.
"ففي دمشق، انهارت قوات الأسد مع تذبذب الدعم الروسي، وتحمل قصة حفتر، وإن لم تُكتَب بعد، أصداء مشؤومة لنفس المسار".
وقال إن "الإهمال الذي أبداه الغرب خلال مرحلة الانتقال في ليبيا -والذي تجلى في انسحاب الولايات المتحدة وتضارب الأجندات الأوروبية- أفسح المجال لروسيا (وتركيا) لبسط نفوذهما".
"ورغم ذلك، تحاول واشنطن الآن تدارك الموقف، ساعية لفك قبضة موسكو على حفتر".
لكن هذه الإستراتيجية -وفق المعهد- تكشف عن سوء فهم للديناميكيات التي تحكم اللعبة، هذا فضلا عن تصورها الخاطئ لقدرة الغربيين على تقديم بديل لما توفره موسكو لحفتر من دعم عسكري ولوجستي ومالي، وهو ما لا يستعد الغرب لتقديمه".
وأشار المعهد إلى أن "حفتر ليس وكيلا حرا قادرا على تبديل الولاءات متى شاء، على الأقل عن موسكو، التي يرتبط بها ارتباطا وثيقا من خلال اعتماده العسكري واللوجستي".
واستطرد: "من مرتزقة مجموعة فاغنر التي تعمل كقوة تنفيذية، إلى الدينارات الليبية المزورة المطبوعة في روسيا لتمويل حملاته، فإن قوة حفتر ليست مستقلة، بل هي مشروطة بشروط الكرملين".
نمر من ورق
وقال المعهد الأطلسي: "إن نظرة الكرملين إلى حفتر بصفته نمرا من ورق ولا ثقة فيه، تؤكد عدم التكافؤ في علاقتهما؛ ففي حين يصف حفتر نفسه بأنه منقذ ليبيا، تراه روسيا أداة لطموحات أوسع".
وأضاف أن "في الهجوم الفاشل الذي شنّه حفتر على طرابلس في 2019 بموافقة أميركية، سحب مرتزقة فاغنر دعمهم التكتيكي، مما أدى إلى تراجع قواته وهزائم مذلة".
وبحسب التقرير، "فلم تكن أولوية المرتزقة انتصار حفتر بل تأمين الأصول الإستراتيجية التي تهم روسيا، فمن خلال ترسيخ وجودها في القواعد الليبية الرئيسة، عمقت موسكو اعتماد حفتر عليها، ورسّخت موطئ قدمها على المدى البعيد".
وأفاد بأن "اعتماد حفتر على موسكو بلغ إلى مستويات جديدة بعد هزيمته في طرابلس عام 2020، وفي ظل نقص السيولة المالية لديه وغياب زخمه، لجأ إلى القدرات العسكرية المتقدمة لشركة فاغنر للحفاظ على وجوده".
وأوضح التقرير أن "طائرات ميج المقاتلة التابعة لشركة فاغنر، المتمركزة في قاعدة الجفرة الجوية والقوات في قاعدة القرضابية الجوية، أصبحت بمثابة شريان حياة لقوات حفتر".
وبيّن أن "تصور حفتر بأنه مدعوم من قوة عظمى مكّنه من إعادة تقوية قواته، وقمع المعارضة وفرض الولاء داخل صفوفه المنقسمة من خلال عمليات التطهير وإعادة الهيكلة".
هذه التطورات -بحسب التقرير- أفسحت المجال أمام عائلة حفتر للبدء في رسم مخططات توريث الحكم.
واستدرك المعهد أن "الاعتماد على الدعم الروسي في فترة الضعف يسلط الضوء على الطبيعة الهشة لقوة حفتر، حيث إن الاعتماد على القوى الأجنبية يخفي خلفه ضعفا بنيويا".

دروس الغرب
ويرى أن "حماقة التعامل الغربي مع حفتر تكمن في المبالغة في تقدير نفوذه؛ ذلك أن افتراض واشنطن بأن حفتر قادر على مواجهة موسكو، يتجاهل حقيقة اعتماده الأساسي على الدعم الخارجي".
"وحتى حلفاؤه، مثل الإمارات ومصر، ينظرون إليه الآن بشكل أكثر براغماتية، ويدعمونه فقط طالما أنه يخدم مصالحهم"، وفق التقرير.
وقال "بالنسبة لروسيا، فإن فائدة حفتر تكمن في اعتماده عليها، لا في ولائه لها"، مضيفا أن "انتهاء الدعم العسكري الروسي لحفتر يعني انهيار قوته المبالغ فيها، لتصبح سرابا، في مشهد يذكرنا بالثقة المفرطة في حتمية بقاء الأسد".
وأردف أنه "إذا كان الغرب يهدف إلى مواجهة موسكو بفعالية، فيجب عليه التوقف عن محاولاته لتغيير ولاءات الشخصيات المؤثرة وأن يعترف بحدود تأثيره في المنطقة".
"وبدلا من السعي وراء تحالفات عابرة مع شخصيات مثل حفتر، يجب على الغرب أن يركز على معالجة الضعف الهيكلي الذي يجعل ليبيا عرضة للاستغلال من الخارج"، وفق المعهد.
وفي المقابل أكد المعهد على أن "الدعم غير المشروط لحكومة ضعيفة وفاسدة في طرابلس يقوض سيادة البلاد، ويخلق المزيد من الفراغات التي يمكن للجهات الفاعلة مثل روسيا استغلالها".
وشدد على أن "تعزيز الحكم، وتعزيز صلابة الاقتصاد الليبي، ودعم الحلول السياسية الشاملة، هي أمور بالغة الأهمية".
"وعلى وجه الخصوص، ينبغي للولايات المتحدة أن تعمل مع الشركاء الدوليين لتعزيز المؤسسات الرقابية القضائية والمالية في ليبيا، والتشديد على المساءلة، والحد من فرص استغلال الجهات الفاعلة الأجنبية للوضع في ليبيا".