بعد تفخيخ "بايجر وأيكوم".. هل يصنع الشرق نظم اتصالات مستقلة عن الغرب؟
"كل الأجهزة مخترقة ويجري استخدامها عند الحاجة في القتل"
هجومان كبيران ومنسقان، هزا لبنان، يومي 17 و18 سبتمبر/أيلول 2024، في أحدث عمليات تفخيخ لأجهزة الاتصال الإلكترونية، "بايجر" التايوانية، و“أيكوم” اليابانية.
في الهجومين قتل 32 لبنانيا، بينهم أطفال، وأصيب 3250 شخصا على الأقل بجروح، وجلهم من عناصر حزب الله وأسرهم، إضافة إلى السفير الإيراني في لبنان.
وتحدث مراقبون عن اختراق الاحتلال الإسرائيلي، سلسلة التوريد للشركة التايوانية، والعبث بأجهزة "بايجر" أو استبدال أجهزة مفخخة بها تحتوي على متفجرات وصاعق في مرحلة ما قبل وصولها لبنان.
كما جرى اختراق أجهزة أيكوم التي تنتجها شركتان يابانية وأميركية، وتفجير أجهزتها اللاسلكية بلبنان، وتردد عن رصد طائرة إلكترونية أميركية في سماء لبنان قبل التفجيرات.
كل هذه الأحداث طرحت مجددا مخاطر الاعتماد على أجهزة الاتصالات الغربية، وإمكانية استخدامها في التجسس أو القتل.
وتعالت دعوات إلى ضرورة البحث عن وسائل اتصالات جديدة مستقلة بعيدا عن النظم الغربية، والتي تبين اختراقها من جانب العدو الإسرائيلي كما حدث في لبنان.
نظم مستقلة
طرحت عملية تفجير إسرائيل وسائل اتصال لحزب الله ولبنانيين مدنيين (بايجر وأيكوم)، ضرورة وجود نظم اتصالات مستقلة للدول العربية والإسلامية عن النظم الغربية التي يجرى شراؤها من أميركا وأوروبا.
حيث تثار شكوك منذ زمن حول “تلاعب إلكتروني” بالأجهزة يمكن من التجسس على أفراد ودول تارة، أو استخدامها كسلاح تارة أخرى عبر أجهزة توجيه دقيقة مزروعة داخلها.
وأعادت "مجزرة لبنان الإلكترونية" مجددا الحديث بقوة عن ضرورة وجود هذه النظم المستقلة للاتصالات، بعيدا عن النظم الغربية.
وبدأت تركيا خطوات في هذا الصدد، وأعلن سلجوق بيرقدار، المدير التقني لشركة بيكار التي تنتج مسيرات بيرقدار الشهيرة، يوم 15 سبتمبر 2024 أن شركته تعتزم توسيع برنامج الفضاء الخاص بشركته لتشمل نظام عالمي لتحديد المواقع خاص بتركيا (جي بي أس).
وقبل يومين من تفجيرات بايجر في لبنان، قال “بيرقدار”، "إنهم (الغرب) يخترقون الساعات والهواتف، وإن "وجود نظامنا الخاص أمر مهم للغاية لسيادتنا وسوف نقوم ببنائه".
وذكر موقع “ستار” التركي أن التصريح الذي أدلى به بيرقدار كان خلال مسابقة تكنوفست (TEKNOFEST) للشباب التركي، أقيمت وسط تركيا في 14 سبتمبر 2024، لاختبار صواريخ من صنعهم لتشجيعهم.
وأصبح حديث بيرقدار متداول على نطاق واسع بعد الهجوم الإسرائيلي على لبنان من خلال أجهزة الاتصال اللا سلكية، ما أبرز أهمية الابتكار التكنولوجي في تعزيز الأمن القومي، بعيدا عن الأجهزة الغربية المخترقة للتجسس والقتل.
كما دعت حسابات على منصات التواصل الاجتماعي للتخلي عن أجهزة الاتصال الغربية واللجوء لنظم "أكثر أمانا وموثوقية".
وفي السياق، يقول صحفي فلسطيني مقيم في غزة أنه رغم حاجة القطاع لأجهزة تكنولوجية وخاصة للتواصل أو لاستخدامها في أغراض عسكرية، إلا أن المقاومة وحكومة غزة كانت تتخلى عن أي أجهزة اتصال تكنولوجية تشك في أنها مخترقة وتحاول اختراع بديل لها".
كشف لـ"الاستقلال" أنه تم إلغاء التعامل بجهاز المغشير "جهاز تواصل لاسلكي بموجات مشفرة" من سنوات، بعدما تم الشك أنه مخترق وتم تجهيز شبكة اتصالات داخلية مركزيتها تابعة لهندسة المقاومة.
أوضح أن الأمر وصل لدرجة متابعة أجهزة الحكم والمقاومة في غزة كل كابل، وإذا حاول شخص استخدام الجهاز أو فصل السلك أو العبث به كانت تصل الإشارات لهندسة تكنولوجيا المعلومات ومباشرة يتم التحقيق.
ويوم 16 سبتمبر 2024، كشفت صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية نقلا عن مصادر أن "النظام البدائي للرسائل المشفرة هو من يبقي قيادة حماس على قيد الحياة".
أكدت أن زعيم حماس يحيى السنوار، لم يكن ليظل حيا حتى اليوم لولا نظام الاتصالات منخفض التقنية، الذي اخترعه وهو في سجون الاحتلال، والذي يحميه من الشبكة الاستخباراتية الإسرائيلية.
أوضحت أن السنوار تجنب، إلى حد كبير، المكالمات الهاتفية والرسائل النصية وغيرها من الاتصالات الإلكترونية التي يمكن لإسرائيل تعقبها، والتي أودت بحياة قادة آخرين للمقاومة.
وبدلا من ذلك، فإنه "يستخدم نظاما معقدا من الموصلات والرموز والملاحظات المكتوبة بخط اليد والتي تسمح له بتوجيه عمليات حماس حتى أثناء الاختباء في الأنفاق تحت الأرض".
حيث يقوم السنوار "بكتابة رسالة بخط اليد أولا ومن ثم تُمرر إلى عضو موثوق به في حماس ينقلها على سلسلة طويلة من الرسل، وغالبا ما تكون الرسائل مشفرة، برموز مختلفة لمستلمين مختلفين في ظروف وأوقات مختلفة.
كيف تم الاختراق؟
وفقا لتقارير غربية جرى اختراق أجهزة اللبنانيين، وتحديدا عناصر حزب الله، عقب تسلل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية لمنتجات شركتين تايوانية تنتج أجهزة "بايجر"، وأخرى يابانية تنتج أجهزة أيكوم (ويكي توكي).
تبين أن الموساد أقام شركة وهمية في المجر، حصلت على إمكانية إنتاج وتوريد أجهزة الشركة التايلاندية الأصلية (غولد أبولو)، وزرع بها متفجرات بكميات صغيرة.
وفعل الشيء ذاته مع شركة أيكوم اليابانية التي ألمحت في بيان نشرته “رويترز” إلى "انتحال" اسمها ووضعه على الأجهزة التي انفجرت في لبنان، وأعلنت أنها تحقق في أجهزة الراديو التي تحمل شعارها بعد انفجارات لبنان.
وقالت "غولد أبولو" أن أجهزة الاتصال التي انفجرت بشكل متزامن بأيدي عناصر من حزب الله، من صنع شريكها المجري "باك" BAC المجرية"، التي تبين تنسيقها مع الموساد.
وذكر مصدر مقرب من حزب الله، لوكالة الأنباء الفرنسية في 17 سبتمبر 2024 أن "أجهزة بايجر التي انفجرت وصلت عبر شحنة استوردها حزب الله مؤخرا تحتوي على ألف جهاز"، يبدو أنه "تم اختراقها من المصدر".
وأكدت وسائل إعلام أميركية، بينها صحيفة "نيويورك تايمز" وشبكة "سي إن إن"، أن تل أبيب استبدلت البطاريات الموجودة داخل أجهزة بايجر بأخرى قابلة للتفجير قبل وصولها إلى لبنان، ثم فجرتها عن بعد.
ونقلت صحيفة "نيويورك تايمز" عن مصدر أميركي، أنه "تم وضع كميات صغيرة من المواد المتفجرة في الدفعة الجديدة من أجهزة بايجر هذه".
وقالت شبكة “سي أن أن”، إنها علمت من مصادرها أن عملية تفجير أجهزة "بايجر" في لبنان نفذها جهاز "الموساد" و"الجيش" الإسرائيلي بشكل مشترك.
ويبدو أن الاحتلال الإسرائيلي خشي أن يكون حزب الله قد اكتشف الاختراق، فقرر التخلص منها، وفق صحيفة "نيويورك تايمز" في 18 سبتمبر.
ويرى عاموس يادلين، رئيس مديرية الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق، أن هدف العملية نقل رسالة لحزب الله أنه "سيدفع ثمنا باهظا للغاية إذا استمر في هجماته على إسرائيل بدلا من التوصل إلى اتفاق".
أكد أنه مع وصول المفاوضات بشأن غزة إلى طريق مسدود، رأت القيادة الإسرائيلية أنها يجب أن تتخذ إجراءات ضد حزب الله، لإقناعه بإنهاء ربط مصيره بمصير حماس.
شبكة معقدة
عام 1999 ترددت معلومات مفادها أن تحالفا من الدول الغربية يقوم بالتصنت على الاتصالات الإلكترونية في العالم على نطاق واسع عبر شبكة معقدة.
وسارعت الوكالات الحكومية الغربية إلى إنكار ذلك، ولكن لجنة تحقيق تابعة للاتحاد الأوروبي قامت بنشر تقرير يثبت وجود هكذا نظام.
شبكة "إيشيلون" Echelon التي تم كشفها، وسُميت "الأُذن الكبرى"، تابعة لجهاز الأمن القومي الأميركي، وهي نظام عالمي لرصد البيانات، واعتراضها، ونقلها.
وتم الكشف أنه يتم تشغيلها من قبل مؤسسات استخبارية في خمس دول هي: الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وكندا، وأستراليا، ونيوزلندا.
وطبقا للتقرير الذي أعدته اللجنة الأوروبية، فإن بإمكان إيشيلون اعتراض وتعقب أكثر من ثلاثة مليارات عمليات اتصال يوميا (تشمل كل شيء من المكالمة الهاتفية العادية، والجوالة، واتصالات إنترنت، واتصالات الأقمار الاصطناعية).
وقالت تقارير أميركية أن نظام إيشيلون يقوم بجمع هذه الاتصالات كافة دون تمييز، وتصفيتها وفلترتها باستخدام برامج الذكاء الاصطناعي لإنشاء تقارير استخبارية.
كشفت أن الوكالات الاستخبارية قامت بتثبيت هوائيات عملاقة في مواقع مختلفة من الكرة الأرضية، وذلك لاعتراض البث المرسل من وإلى الأقمار الاصطناعية، ومواقع متخصصة في تعقب الاتصالات الأرضية.
وتقول صحيفة "نيويورك تايمز" إن قتل إسرائيل المهندس الفلسطيني يحيى عياش وممثل منظمة التحرير الفلسطينية في فرنسا محمود الهمشري، كان ضمن حالات الاختراق لأجهزة الاتصالات.
أكدت أن هاتين الحادثتين تعدان لدى مجتمع الاستخبارات "حالات نجاح نموذجية"، حيث خدمت الهواتف وأجهزة الاتصالات أغراض حاسمة: مراقبة ورصد الهدف، ثم استخدام عبوات ناسفة صغيرة داخل أجهزة الاتصال هذه لقتل صاحبها.
وكان عملاء الموساد قاموا بتبديل القاعدة الرخامية للهاتف الذي يستخدمه محمود الهمشري، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في فرنسا، داخل شقته، عام 1972، لقتله بدعوى العقل المدبر لعملية ميونخ لقتل 11 رياضيا إسرائيليا، وفق صحيفة "فاينانشيال تايمز" الأميركية.
وحين قام "الهمشري" بالرد على الهاتف، قامت مجموعة إسرائيلية قريبة بتفجير المتفجرات المعبأة داخل قاعدة الهاتف المفخخة عن بعد، وفقد الهمشري إحدى ساقيه ثم توفي في وقت لاحق نتيجة لإصابته بجروح بليغة.
وفي 5 يناير/كانون الثاني من عام 1996، اغتال الموساد يحيى عياش، المهندس الأول في كتائب القسام وصانع القنابل الماهر الذي ظل مطاردا لسنوات من قبل إسرائيل، بطريقة تقنية مشابهة.
حيث تم تسريب هاتف محمول من طراز "موتورولا ألفا"، لـ"العياش"، عبر عميل لإسرائيل، وحين رد العياش على مكالمة من والده الذي كان يطمئن عليه، رصد الاحتلال بصمة صوت المهندس، وفجر الهاتف الذي كان مفخخا بنحو 50 غراما من المتفجرات.
وفي 11 يناير/كانون ثان 2021، كشف موقع "فايس" أن ملايين المسلمين عرضة للاختراق حتى من خلال تطبيقات مواقيت الصلاة.
كشف أن تطبيق "مسلم برو"، يستخدم بيانات مستخدمي تطبيق "الصلاة أولا" في تجارة المعلومات السوداء.
وأوضح الموقع الذي حقق في الموضوع أنه حصل على مجموعة بيانات كبيرة عن حركات مستخدمي التطبيق من "مصدر" حذر من أن مثل هذه المعلومات المتعلقة بحركة المسلمين قد تُستخدم بشكلٍ سيئ من قبل أولئك الذين يشترونها.
وذكر الموقع أن التطبيق كان يبيع بيانات مواقع المستخدمين إلى شركة "بريدكيو" (Predicio)، وهي شركة فرنسية كانت تتعامل مع متعاقد حكومي أميركي يعمل مع مكتب التحقيقات الفيدرالي، والجمارك وحماية الحدود والزبائن.
وكان "فايس" قد نشر تقريرا آخر، في 16 نوفمبر 2020 أيضا، أكد فيه أن الجيش الأميركي "يحصد" بيانات هائلة من تطبيق "مسلم برو" الذي حُمل أكثر من 98 مليون مرة، ويستخدمه المسلمون حول العالم للصلاة وتلاوة القرآن.
وأشار التقرير أيضا إلى أن "الحصاد" يتم أيضا في تطبيقات أخرى، يستخدمها مسلمون للبحث عن وظائف ونشر إعلانات متفرقة وصغيرة، وأخرى يستخدمها المسلمون وغير المسلمين، مثل تطبيقات نشرات الطقس.
وفي هذا السياق، قال خبير أمن معلومات عربي لـ"الاستقلال" أن اختراق إسرائيل أجهزة الاتصالات بايجر وأيكوم في لبنان يؤكد الحاجة لنظام اتصالات عربي وإسلامي مستقل لأن "كل الأجهزة مخترقة ويجرى استخدامها عند الحاجة في القتل".
وأوضح أن ما حدث يشير لقدرة كتائب القسام على منع أي اختراق إسرائيلي عكس حزب الله وإيران وربما سببه كما قالت صحيفة وول ستريت جورنال استخدام القسام وسائل مشفرة بدائية اخترعها السنوار في فترة سجنه.
اختراق الاتصالات "سلاح"
وقال محللون إسرائيليون إن سلسلة التفجيرات التي استهدفت أجهزة عناصر حزب الله في لبنان وسوريا، شكلت ضربة معنوية قاسية وهزيمة للحزب، وزادت من قدرة الردع الإسرائيلي.
لكنهم أكدوا أنه رغم ذلك "لم تؤد العملية إلى تغيير إستراتيجي جوهري في المنطقة، لكنها قد تمهد الطريق لمواجهة مستقبلية مفتوحة".
المحلل العسكري في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، رون بن يشاي، أكد في 18 سبتمبر أن تفجير أجهزة الاتصال عن بعد "كشف لحزب الله مدى سهولة اختراقه، ليس فقط من الناحية الاستخبارية بل أيضا من الناحية الرقمية والتقنية".
ورأى أن "هذا التكامل بين الاستخبارات والاختراق الرقمي يشكل سلاحا بحد ذاته، وعلى حزب الله ورعاته الإيرانيين الحذر منه".
لكنه قال إن "التفجيرات المنسوبة إلى إسرائيل تزيد من مستوى الردع ضد حزب الله وإيران، وتعد ضربة معنوية للحزب، لكنها لا تشكل تحولا إستراتيجيا يضمن عودة سكان الشمال إلى منازلهم بأمان".
نقل "بن يشاي" عن خبراء إلكترونيات اعتقادهم أن أجهزة الاتصال التي انفجرت كانت تُستخدم لتنسيق وتوقيت إطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة تجاه إسرائيل، وإعطاء إنذارات لمقاتلي حزب الله ضد ضربات سلاح الجو الإسرائيلي".
ونقل محلل الشؤون الاستخباراتية في "يديعوت أحرونوت"، رونين بيرغمان، عن ضابط رفيع في الجيش قوله إن "اختراق اتصالات حزب الله التي جعلته في حالة صدمة وخوف وإهانة، تؤكد أهمية الاتصالات في تعزيز أمن إسرائيل.
المصادر
- The Crude System of Coded Messages Keeping Hamas’s Leader Alive
- Israel Planted Explosives in Pagers Sold to Hezbollah, Officials Say
- How did pagers explode in Lebanon and why was Hezbollah using them? Here’s what we know
- Gold Apollo says Budapest-based BAC produces model of pagers used in Lebanon blasts