تركيا تشهد انفتاحا سياسيا جديدا قد يكتب نهاية "العمال الكردستاني".. ما القصة؟

"حتى لو تقدمت العملية ونجحت فمن الصعب توقع حل فوري يتماشى مع ما تريده تركيا"
تعيش تركيا مرحلة سياسية جديدة أطلق عليها "عملية الانفتاح" وبدأت مع دعوة رئيس حزب الحركة القومية دولت بهتشلي، زعيم تنظيم حزب العمال الكردستاني (بي كا كا)، عبد الله أوجلان، إلى إدلاء كلمة بالبرلمان التركي لحل القضية الكردية، ما فجّر تطورات عديدة.
ومطلع يناير/ كانون الثاني 2025، أجرى وفد من حزب "المساواة وديمقراطية الشعوب" (كردي)، محادثات مع رئيس البرلمان التركي نعمان قورتولموش وزعيم حزب الحركة القومية بهتشلي في أعقاب أول تواصل سياسي مع أوجلان خلال نحو 10 سنوات.

ملامح خارطة طريق
وعُقد الاجتماعان لإطلاع قورتولموش وبهتشلي على مضمون اللقاء الذي أجراه وفد من الحزب المعارض نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2024 مع أوجلان الذي يمضي عقوبة بالسجن مدى الحياة في سجن جزيرة إمرالي قرب إسطنبول.
ودعا بهتشلي أوجلان للحضور إلى البرلمان لإعلان حل حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه أنقرة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تنظيما إرهابيا، مقابل إطلاق سراحه.
ولقيت المبادرة دعما من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وجاءت قبل أسابيع من دخول فصائل الثورة السورية إلى دمشق منهية حكم عائلة الأسد الذي استمر أكثر من 50 عاما.
ويستعد وفد حزب "المساواة وديمقراطية الشعوب" للقاء ثانٍ مع أوجلان، لبحث خارطة طريق المرحلة القادمة.
كما يعتزم الحزب عقد لقاءات مع منظمات المجتمع المدني وكتاب وأكاديميين في تركيا لعرض تفاصيل المرحلة الجديدة عليهم.
ونقلت وسائل إعلام تركية عن مصادر بالحزب أن أكثر البنود الجاري مناقشتها أهمية هي:
• المطالبة بتحويل العملية إلى حل نهائي وسلام دائم، والخروج من معادلة العنف والسلاح، وهو مطلب مشترك لدى الجميع.
• مناقشة تصحيح السياسات الخاطئة التي مورست ضد الأكراد في الماضي.
• الإشارة إلى أن الخطوات التي ستتخذ في البرلمان ستسرّع من العملية وتجعل خارطة الطريق أكثر وضوحا.
• وجود انطباع بأن الحكومة تستعد لدعم نجاح العملية من خلال تفعيل البرلمان وتعزيز الحوار مع المعارضة.
• الإشارة إلى أن الدولة ليست داعمة بالكامل للعملية، في حين أن موقف دولت بهتشلي يبدو أكثر توازنا.
• طلب المعارضة أن يلعب الرئيس رجب طيب أردوغان دورا أكثر فعالية ومبادرة في المرحلة المقبلة.

رسائل سياسية
بعد اجتماع حزب "المساواة وديمقراطية الشعوب" مع حزب العدالة والتنمية، صرّح رئيس الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية جولر، قائلا: "هناك أجواء إيجابية لحل القضية، والمرحلة المقبلة قد تشهد تطورات غير متوقعة".
فيما شدد حزب الشعب الجمهوري (أكبر أحزاب المعارضة)، بعد اجتماع مشابه، على أهمية "الشفافية وضمان التوافق الاجتماعي، وأن تُدار العملية تحت إشراف البرلمان التركي، مع تشكيل لجنة تضم جميع الأحزاب السياسية بالتساوي".
وعقب اجتماع مع زعيم حزب الحركة القومية دولت بهتشلي، قال النائب عن الحزب الكردي أحمد ترك: "50 مليون كردي تتجه أنظارهم نحو تركيا".
بينما قال بهتشلي: "لا يمكن الحديث عن الانقسام في القرن الجديد. لقد فتحنا باب السلام والاستقرار. انتهت فترة التلاعب السياسي، والقرن الجديد سيكون قرن السلام".
في المقابل، عارضت بعض الأحزاب هذه العملية. حيث أعلن رئيس الحزب الجيد مساوات درويش أوغلو (قومي) أن الحزب لن يلتقي بوفد الحزب الكردي.
وأضاف: "ليس لدينا أي شيء يمكن التفاوض عليه مع أعداء الجمهورية. الحزب الجيد لن يقبل التفاوض مع الإرهابيين الذين يراد منحهم العفو، ولن يعترف بالمتحدثين باسمهم أو شركائهم".
أما رئيس حزب السعادة (إسلامي)، محمود أريكان، فقال: "سنحاول قريبا تقديم دعمنا للعملية والمساهمة في تحقيق السلام".
كما زار الوفد الكردي الرئيس المشترك السابق لحزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرطاش (كردي)، المسجون في سجن إدرنة.
وعقب الزيارة، صرح دميرطاش عبر حسابه على وسائل التواصل الاجتماعي: "أؤكد دعمي الكامل لكل خطوة تُتخذ لتعزيز الديمقراطية، متجاوزة أي مصالح شخصية أو حزبية".
وأضاف: "بصفتنا فاعلين سياسيين يعملون في إطار ديمقراطي وسلمي، فإننا نتمنى وندعم إنهاء النزاعات والعنف بشكل دائم. ونؤكد أنه إذا قرر السيد أوجلان اتخاذ مبادرة في هذا الصدد عندما تتوافر الظروف الملائمة، فإننا سنكون داعمين له".
وتابع: "إن أي دعوة محتملة ستكون من اختصاصه بالكامل. وكما أشار هو بنفسه، فإن مسؤولية توفير الأسس القانونية والسياسية لهذه الدعوة تقع على عاتق الحكومة والبرلمان".

أردوغان حاضر
وبينما يُنتظر أن تُجرى زيارة جديدة إلى أوجلان خلال الأيام المقبلة، صدرت في 11 يناير 2025، رسالة مهمة من ديار بكر معقل الأكراد جنوب شرق تركيا.
حيث قال الرئيس التركي، زعيم حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان في المؤتمر الإقليمي الثامن لحزبه في ديار بكر: "لقد فُتحت أمام بلادنا نافذة جديدة وهامة من الفرص لإنهاء آفة الإرهاب إلى الأبد. ولا نرى أن إهدار هذه الفرصة هو أمر صائب".
وأضاف: "بدأت هذه العملية بهدف إزالة أحد آخر العقبات أمام هدف تركيا العظيمة والقوية، والهدف هو تخلي حزب العمال الكردستاني عن أسلحته دون قيد أو شرط، وحل نفسه تماما".
وأكمل أردوغان مؤكدا: "لقد حان الوقت لنقول كفى للأوجاع التي عانينا منها على مدار نصف القرن الماضي، حان الوقت لقول أشياء جديدة".
وقبل ذلك قال رئيس البرلمان التركي قورتولموش: "أعتقد أن الجميع يجب أن يتصرف بمسؤولية كبيرة، إذا كنا نفكر مئة مرة قبل التحدث في الماضي، الآن يجب أن نفكر ألف مرة قبل أن نقول كلمة واحدة. لا ينبغي لأحد أن يتصرف بناء على رغبته في زيادة شعبيته أو تحقيق مكاسب سياسية، إن هذه فرصة تاريخية".
وبالحديث عن الرأي العام في تركيا، يمكن القول إنه يشير إلى ضرورة مراعاة بعض الحساسيات أثناء إدارة هذه العملية، لا سيما فيما يتعلق بتجنب جرح مشاعر عائلات الشهداء الذين قتلهم حزب العمال الكردستاني.
علاوة على ذلك، أكد زعيم حزب الشعب الجمهوري، أوزغور أوزيل، على أهمية إدارة العملية دون إلحاق الأذى بعائلات الشهداء والمصابين.
وفي 12 يناير 2025، أدلى سري سورييا أوندر، نائب رئيس البرلمان التركي عن حزب الديمقراطية، بتصريحات حول هؤلاء الشهداء والمصابين.
وقال: "لقد أضاعت بلادنا 10 سنوات ثمينة، والشيئان اللذان لا يمكن تعويضهما هما الأرواح التي فُقدت والوقت الذي مر. كل الشهداء والمصابين الذين فقدوا حياتهم أو صحتهم خلال هذا الصراع يمثلون شرفا لبلدنا بأكمله".
وأضاف: "هناك نقاشات مثيرة للجدل للغاية، إن اللغة التي تُستخدم أحيانا تضر بذات القدر الذي يفعله السلاح. وليس هناك حديث عن تقسيم البلاد إلى لغتين أو علمين؛ ليس هناك شيء من هذا القبيل على جدول أعمالنا، لم نناقش مثل هذا الأمر أو نلمح إليه. إن ما نحاول بناءه هو السلام".

دور سوريا
بما أن العملية الجديدة لا تقتصر فقط على الشؤون الداخلية التركية، فمن المحتمل أن تشهد سوريا أيضا تطورات مرتبطة بها.
وقد كشف اجتماع قائد الإدارة الجديدة في سوريا، أحمد الشرع، مع زعيم مليشيا سوريا الديمقراطية "قسد"، مظلوم عبدي، (مرتبطة ببي كا كا) عن تشكيل معادلة إقليمية جديدة.
وفي مقابلة أجراها ممثل الجناح السياسي لـ "قسد" المدعوم من الولايات المتحدة، بسام إسحاق، مع صحيفة "الشرق الأوسط" السعودية، ذكر أن "هناك سلسلة من الاجتماعات بين قسد وهيئة تحرير الشام، وأن هذه الاجتماعات كانت إيجابية".
وأضاف إسحاق أن عبدي عقد اجتماعا مع الشرع، في دمشق، مشيرا إلى أن "الاجتماع تناول القضايا العسكرية فقط، وبُحث خلاله آلية التنسيق والمسائل المشتركة".
وتابع: "نحن متفقون مع الإدارة الجديدة لسوريا بشأن وحدة الأراضي السورية، ولكن هناك تفاصيل يجب حلها. يمكن لتركيا أن تلعب دورا بناء في جميع أنحاء سوريا. نريد حل الخلافات عبر الحوار".
من جهة أخرى، أكد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أن فرنسا ستستمر في دعم "قسد".
في حين قال مسؤول العلاقات الخارجية لـ "قسد" المرتبط بحزب العمال الكردستاني إن "فرنسا يجب أن تقنع تركيا بالدخول في عملية سلام".
وردا على ماكرون، قال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان: "نحن لا نأخذ في الحسبان الدول التي تحاول التحدث عن مصالحها في سوريا مختبئة وراء الولايات المتحدة".
ومن خلال العلاقات الوثيقة التي تقيمها تركيا مع الإدارة الجديدة في سوريا، يمكن القول إن "الحكومة السورية ستكون شريكا مهما في هذا السياق".

الدولة التركية جادة
وتعليقا على المشهد، قال الصحفي التركي محمد علي أردوغان لـ"الاستقلال"، إن “هذه العملية تبدو أكثر تركيزا على النتائج وأكثر جدية مقارنة بعملية سابقة”.
وأضاف: "حيث تشير قيادة زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهتشلي، لهذه العملية، إلى جدية الدولة. وهذا يذكرنا بالدور الذي لعبه ألب أرسلان توركش عام 1993 في عملية تطبيع العلاقات بين تركيا وأرمينيا".
وتابع الصحفي: "عندما تتحرك الدولة بشكل مركز على النتائج في قضايا حساسة كهذه، يمكن أن يلعب الأطراف الأكثر تشددا أدوارا مهمة".
وبالإشارة إلى وجود اختلافات بين عملية 2013 والعملية الحالية، يوضح محمد علي أردوغان أنه "في ذلك الوقت، كان هناك ثلاثة كانتونات منفصلة تحت سيطرة وحدات حماية الشعب "واي بي جي" شمال سوريا".
وأشار إلى أنه "لم يكن هناك وجود لمليشيا سوريا الديمقراطية "قسد" كما هو الآن، والعلاقات مع الولايات المتحدة لم تكن بذات النسق الحالي. واليوم، بدأت العلاقات بين قوات سوريا الديمقراطية وإسرائيل أيضا"
وهنا، يذكر الصحفي أنه "بالإضافة إلى ذلك، في المرحلة السابقة، لم يكن حزب الحركة القومية وبعض الجهات داخل الدولة يدعمون العملية، كما أن الحكومة كانت تخوض معركة ضد تنظيم فتح الله غولن".
ومن ناحية أخرى، أوضح الصحفي أننا "قد نشهد في وقت قريب رسالة مصورة من عبد الله أوجلان، مؤسس حزب العمال الكردستاني، وقد يدعو من خلالها قيادة قنديل (مركز بي كا كا) لإلقاء السلاح".
"ومع ذلك، هناك عملية معقدة تنتظرنا فيما يتعلق بشمال سوريا"، وفق الصحفي.
وتابع موضحا: "ففي المرحلة السابقة، كانت هناك نقاشات حول الحكم الذاتي وتعزيز الإدارات المحلية وتعديل الدستور، بل وحتى تغيير اسم تركيا إلى جمهورية الأناضول".
أما في هذه المرحلة، فيتوقع محمد علي أردوغان أن "تتضمن النتائج عفوا سياسيا، بالإضافة إلى الاعتراف بالأكراد في الدستور وإزالة العوائق أمام استخدام اللغة الكردية".
ومن المحتمل أيضا، بحسب الصحفي، أن يخرج أوجلان من سجن إيمرالي ضمن هذه العملية. ولكن، على الجانب الآخر، الطرف الآخر في مواجهة الدولة ليس لديه نفس المطالب القوية كما في العملية السابقة.
ومع ذلك، حتى لو تقدمت العملية ونجحت، فمن الصعب توقع حل فوري يتماشى مع ما تريده تركيا فيما يخص شمال سوريا، وفق ما أفاد به الصحفي التركي.