العربي بن مهيدي.. ثائر جزائري ظل كابوسا مزعجا لفرنسا وأقر ماكرون بقتله
“صورة ابتسامته بسخرية لجلاديه ظلت راسخة في الأذهان”
بعد 67 عاما، أقر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بقتل بلاده الثائر الجزائري محمد العربي بن مهيدي، أحد كبار وأبرز قادة ثورة التحرير من الاستعمار الفرنسي، وذلك بمناسبة الذكرى السنوية السبعين لاندلاعها.
وابن مهيدي، ظلت صورة ابتسامته بسخرية لجلاديه راسخة، بل انتزعوا أظافره وأسنانه وسلخوا جلده بعد إيمانه بقضية بلاده العادلة في طرد المستعمر، وبعد تعذيبه بوحشية، أعدمه عسكريون فرنسيون شنقا.
من أجل الحقيقة
وقال ماكرون "نعترف في هذا اليوم (ذكرى اندلاع ثورة التحرير الجزائرية) بأن العربي بن مهيدي البطل الوطني للجزائر، وواحد من القادة الستة الذين فجروا الثورة في 1 نوفمبر/ تشرين الثاني 1954، اغتاله عسكريون فرنسيون كانوا تحت قيادة الجنرال بول أوساريس عام 1957".
ورأى ماكرون في بيان صادر عن قصر الإليزيه (الرئاسة الفرنسية)، مطلع نوفمبر 2024، أن "العمل من أجل الحقيقة والاعتراف يجب أن يستمر".
وقبل اليوم، ظلت الرواية الفرنسية الرسمية تزعم أن ابن مهيدي "انتحر" في زنزانته، رغم أن الجنرال أوساريس، الذي يُلقب في الجزائر بـ"السفاح"، اعترف بقتله في مذكرات نشرها عام 2000.
ويعد هذا ثالث اعتراف من قبل الرئيس ماكرون بمسؤولية بلاده عن اغتيال شخصيات بارزة في الثورة الجزائرية.
وفي 13 سبتمبر/ أيلول 2018 اعترف بمسؤولية الجيش الفرنسي عن اختطاف وقتل تحت التعذيب للناشط اليساري الفرنسي والمناضل من أجل استقلال الجزائر موريس أودان عام 1957.
وفي 3 مارس/ آذار 2021، اعترف بمسؤولية بلاده عن تعذيب وقتل المحامي والمناضل الجزائري علي بومنجل سنة 1957، في وقت كانت الرواية السائدة لفرنسا تفيد بأن بومنجل انتحر قفزا من طابق مرتفع أثناء استجوابه، ما أدى لمصرعه.
وانتهج ماكرون سياسة تقوم على "الاعتراف التدريجي" بجرائم الاستعمار الفرنسي للجزائر، حيث أدان في 16 أكتوبر/ تشرين الأول 2021 القمع الدموي لمظاهرات 17 أكتوبر 1961، في العاصمة باريس من قبل الشرطة بقيادة السفاح موريس بابون؛ ما خلف آنذاك أزيد من 12 ألف قتيل، منهم من أُلقوا أحياء داخل نهر السين.
وقال الكاتب ميشال أبو نجم: "اللافت أن فرنسا، التي درجت على الاعتراف بالجرائم التي ارتكبتها قواتها في الجزائر بالتقسيط، كالت المديح والثناء بعد سنوات من الكذب الرسمي لابن مهيدي".
وأوضح في مقال نشره عبر موقع "الشرق الأوسط" مطلع نوفمبر، أن “بيان الإليزيه توقف عند تفاصيل حياته، مثل حصوله على الشهادة الابتدائية، ثم دراسته في المرحلة الثانوية، وانتمائه للكشافة، وانضمامه باكرا إلى التيار المطالب بالاستقلال، بعد مجازر ولاية قسنطينة صيف 1945، وكذا التحاقه بالثورة الجزائرية التي أصبح أحد قادتها”.
وذكر أبو نجم أن "البيان الرسمي أشار إلى أن ابن مهيدي كان مهندس المؤتمر الأول لجبهة التحرير الجزائرية، وأُسندت إليه قيادة منطقة العاصمة الجزائر"".
وتابع: "الأصل يا ماكرون؛ أنه لا خلاف حول اغتيال فرنسا ليس للعربي بن مهيدي فقط ولكن لعشرة ملايين جزائري من عام 1830.. والأصل أن الشهيد ابن مهيدي، تم سلخه ولم تتم فقط تصفيته".
واستطرد: "ذهب بيان الرئاسة إلى التنويه بالصورة التي أخذت لابن مهيدي (مبتسما وهو مكبَّل اليدين، ونظرة تنمُّ عن الكبرياء، بحيث إن العسكريين الفرنسيين الذين كانوا على دراية بشهرته أثّرت فيهم شجاعته والكاريزما التي تحلَّى بها)".
فيما كتبت صحيفة "لو موند" أن المؤرخ الفرنسي المعروف، بن جامان ستورا، الذي اقترح على ماكرون العمل من أجل تصالح الذاكرتين الفرنسية والجزائرية، هو من اقترح على الرئيس الفرنسي التخلي عن “الكذبة الرسمية” وقول الحقيقة بخصوص طبيعة موت ابن مهيدي، الذي قُتل في سن الـ34 عاما.
وبرأي ستورا، فإن بادرة ماكرون تعني عمليا “الاعتراف بالشرعية السياسية لحرب الوطنيين الجزائريين”.
تحية القائد
محمد العربي بن مهيدي ولد عام 1923 في مدينة عين مليلة بمحافظة أم البواقي شرقي الجزائر، ويعد "رمزا" في بلاده، وأحد مفجري ثورة التحرير ضد الاستعمار الفرنسي، فهو صاحب المقولة التاريخية “ألقوا بالثورة إلى الشارع يلتقطها الشعب”، و"أريد أن أُعذب حتى أتأكد أن جسدي الفاني لن يخونني".
واعتقل من طرف قوات الاحتلال في فبراير/ شباط 1957، بينما كان يقود معركة الجزائر (العاصمة) ضد الاستعمار الفرنسي، وآنذاك اشتهر بوقفة الشموخ مبتسما وهو مُصفد اليدين.
وكُلّف بإعلان الثورة في منطقة وهران حيث تواصل مع القبائل وضمن انضمام بعضها، ورغم قلة الموارد، استطاع تنظيم وتجنيد وتسليح رجال الثورة تمهيدا ليوم التحرير.
وليكون تاريخ 23 أكتوبر 1954 موعدا للقاء مجموعة الستة التي أطلقت على نفسها "جبهة التحرير الوطني" وحددوا الأول من نوفمبر 1954، عند الساعة صفر (ليلة 31 أكتوبر) موعدا لبداية الثورة.
وظل ابن مهيدي الملقب أيضا بـ"العربي الحكيم"، محل إعجاب من قبل الجنود المظليين الفرنسيين الذين ألقوا القبض عليه، حيث قدموا له تحية الشرف؛ نظرا لشخصيته القيادية والفريدة، حتى إن الجنرال الفرنسي مارسيل بيجار سماه "العدو ذا القيمة".
تم الإعلان عن اعتقال العربي بن مهيدي رسميا في 23 فبراير 1957 من قبل فرقة المظليين الفرنسيين بقيادة بيجار، فيما كشف أوساريس في مذكراته أن الاعتقال قد حدث في الواقع أسبوعا قبل الإعلان الرسمي أي بين 15 و16 فبراير.
بعد أن قُبض عليه، نُقل إلى مركز قيادة الجنرال بيجار مُكبل اليدين، وهناك تعرض لسلسلة من الاستجوابات من قبل ضابط الاستعلامات حول أسباب اندلاع الثورة التحريرية وتنظيم جيش وجبهة التحرير الوطني لكنه رفض الإجابة.
تم تفتشيه فيمَا بعد فلم يجدوا شيئا سوى أرضية (وثيقة) "مؤتمر الصومام" (لقاء لقادة الثورة في وادي الصومام بالقبائل شمال الجزائر)
وتختلف الآراء وتتنوع الروايات حول الأحداث الغامضة التي أدت إلى اعتقال ابن مهيدي وقتله تحت التعذيب ليلة الثالث إلى الرابع من مارس 1957 على يد الجنرال أوساريس، وكيفية اكتشاف مكان اختبائه، فيما بقيت الحقيقة محل نقاش بين المؤرخين.
قال فيه الجنرال بيجار بعد أن يئس هو وعساكره أن يأخذوا منه اعترافا أو وشاية برفاقه، رغم العذاب المسلط عليه لدرجة سلخ جلد وجهه بالكامل وقبل اغتياله رفع بيجار يده تحية لابن مهيدي ثم قال: "لو أن لي ثلة من أمثال العربي بن مهيدي لغزوت العالم".
في عام 2001 جدد الجنرال أوسارس اعترافه لصحيفة "لو موند" أنه هو من قتل ابن مهيدي شنقا بيده.
تلاعب بالعواطف
وقالت صحيفة “الجزائر الجديدة” إن “ماكرون استغل قمة الغضب الجزائري من مواقفه المنافية للصداقة مع الجزائر، كي يغازل السلطات الجزائرية، باعترافه باسم الدولة الفرنسية، بأن البطل العربي بن مهيدي، لم يمت منتحرا كما سوَّقت لذلك الرواية الفرنسية الرسمية، وإنما استشهد تحت التعذيب على يد مجرمي الجيش الفرنسي”.
ورأت الصحيفة في مقال نشرته في 2 نوفمبر أن “المراقبين يكاد يجمعون على أن الموقف الجزائري من ماكرون بعد خطوته الأخيرة لن يتزحزح قيد أنملة، أولا بسبب حجم الغضب المتراكم من قصر الإيليزيه (..) لكون ماكرون يتلاعب بعواطف الجزائريين من حين إلى آخر، بقرارات مجزأة، في وقت تنتظر الجزائر اعترافا رسميا فرنسيا بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وتقديم اعتذار عن ذلك”.
من جانبه، قال الإعلامي الجزائري أسامة وحيد: "ماكرون وفي شطحة جديدة؛ يعترف بأن الشهيد محمد العربي بن مهيدي؛ قتلته فرنسا...!".
وأضاف في تدوينة عبر فيسبوك أن "الغريب أن بعضهم، عد اعتراف ماكرون إضافة..!.".