ديكتاتورة بنغلاديش.. لماذا اختارت الهند وجهة للهروب؟

حسينة هبطت في مطار عسكري بالقرب من دلهي
تكررت مشاهد ثورات الربيع العربي، بعد أكثر من عقد على انطلاقها، ولكن هذه المرة في بنغلاديش يوم 5 أغسطس/آب 2024.
وهربت رئيسة الوزراء "الشيخة حسينة واجد" التي حكمت 20 سنة متتالية، بطائرة عسكرية للهند بعد شهر من الثورة الشعبية ضدها.
وبدأت وقتها احتجاجات تطالب باستقالة الشيخة حسينة، واجهتها قوات الأمن بعنف مما أدى إلى مقتل العشرات.
وانطلقت التظاهرات على خلفية إعادة المحكمة العليا في يونيو/ حزيران العمل بنظام المحاصصة الذي يخصص 56 بالمئة من الوظائف الحكومية لفئات ديمغرافية معينة بينها عائلات المحاربين القدامى.
مشاهد اقتحام الثوار لمقر السلطة والبرلمان الذي كان يسن القوانين القمعية لها، وظهور آلاف البنغاليين وهم يسيطرون على حجرة نوم حسينة، وتناول الطعام في مطبخ قصرها الرئاسي، تكررت في أحداث أخرى قريبة مثل ثورة سيريلانكا يونيو/حزيران 2022.
لكن اختيار رئيسة الوزراء الهند تحديدا، وتعمد المحتجين تحطيم تماثيل أبيها مؤسس بنغلاديش "مجيب الرحمن" بالفؤوس، حمل دلالات أخرى حول قصص تآمرها مع الهندوس، وقتلها علماء "الجماعة الإسلامية".
كما أن مطالبة قائد الجيش "واكر الزمان" المحتجين بالهدوء والانصراف إلى منازلهم، وأن يثقوا به، جعلت ناشطين ومحللين يحذرون من تكرار خديعة العسكريين للثوار.
وكان تقرير سابق لـ "الاستقلال" توقع أن تضع "ثورة الطلاب" نهاية 20 عاما من الظلم وحكم ديكتاتورة بنغلاديش "حسينة واجد".

لماذا الهند؟
فور هروبها على وقع الاحتجاجات، قالت وكالة أنباء "إيه إن آي" الهندية إن حسينة هبطت في مطار عسكري بالقرب من دلهي.
وأظهرت "خدمات التتبع" التجارية أن طائرة تابعة لسلاح الجو البنغالي اتجهت غربا قرب دلهي، وفق وكالة "رويترز" البريطانية 5 أغسطس 2024.
"وكالة أنباء آسيان" نقلت عن مصادر هندية أن "حسينة" وصلت إلى قاعدة هندون الجوية في غازي آباد بولاية أوتار براديش على متن طائرة نقل عسكرية من طراز سي-130.
وذكرت صحيفة "هندوستان تايمز" 5 أغسطس 2024 أن "القوات الجوية الهندية وأجهزة أمنية أخرى توفر لها الأمن وتنقلها إلى مكان آمن".
اختيارها للهند فسره مصدر مقرب من حسينة، لوكالة الأنباء الفرنسية 5 أغسطس، بأنها "غادرت قصرها إلى مكان أكثر أمانا".
وتعد نيودلهي أكبر حليفة لها منذ انتخابها لأول مرة عام 1996، حيث أكدت الشيخة على أن الهند ساعدت بنغلاديش خلال حرب الاستقلال عام 1971.
كما أنها الدولة التي ساعدت أباها مجيب الرحمن على الانفصال عن باكستان كي تضعف الوحدة الإسلامية للبلدين.
لذا استقبلتها الهند بحفاوة، وذكرت "وكالة أنباء آسيا الدولية" نقلا عن مصادر، أن مستشار الأمن القومي الهندي أجيت دوفال وضباطا عسكريين كبارا التقوا حسينة في المطار ونقلوها إلى مكان آمن.
وأيضا، فإن اختيار "حسينة واجد" الهند لتهرب إليها له علاقة بقصة تحالفها مع الهندوس في الهند ضد علماء بنغلاديش والجماعة الإسلامية وإعدام 5 منهم.
وقبل هروبها للهند بشهر واحد، زارت رئيسة وزراء بنغلاديش السابقة، الشيخة حسينة، الهند مرتين في يونيو 2024 خلال 15 يوما.
المرة الأولى لمدة ليوم واحد للمشاركة في حفل تنصيب رئيس الوزراء المتطرف ناريندرا مودي.
وبعدها بأسبوع، زارتها رسميا لمدة يومين، وأجرت خلالها محادثات مع مودي وأعلنت عن عدد كبير من الاتفاقيات.
وأكدت الزيارتان على العلاقات السياسية الوثيقة بين نظامها والنظام الهندوسي المتطرف الذي يحكم الهند وينفذ خططا مشابهة لخططها في قمع التيارات الإسلامية.
ولأن الهند ساعدت في استقلال بنغلاديش عن باكستان، فقد تعززت العلاقات بين البلدين في عهد الشيخة حسينة.
ومنذ أن تولت السلطة، أولت بنغلاديش أهمية للهند وبذلت قصارى جهدها لتعزيز العلاقات الوثيقة مع الحكومة الهندوسية هناك.
وكانت الهند أول دولة تعترف ببنغلاديش كدولة مستقلة، وأقامت علاقات دبلوماسية معها مباشرة بعد استقلالها في ديسمبر/كانون الأول 1971، وساعدتها في الحرب ضد باكستان.

قمع الإسلاميين
ومنذ عام 2009، ساعدت الشيخة حسينة نيودلهي في قمع المجموعات الإسلامية المسلحة التي تحارب من أجل الاستقلال في كشمير وغيرها.
كما ضيقت على هذه الجماعات المسلحة الانفصالية الهندية التي تتخذ ملاذا لها في بنغلاديش.
وسعت لقمع الجماعة الإسلامية وأعدمت خمسة من قادتها وقتلت اثنين آخرين في سجونها كان معتقلين، بسبب دورهم في فضح وكشف جرائم الهند ضد المسلمين وحالة العداء بينهما.
وفي مفهومها السياسي عن بنغلاديش، تواجه الهند، مشكلة، لا سيما أن الفكر الإستراتيجي الهندي تشكل في الفترة من 2001 إلى 2006، أي خلال حكم "الحزب القومي" البنغالي المؤيد للإسلام، والمؤيد لباكستان.
وفي ظل حكم الحزب الوطني البنغالي (بزعامة خالدة ضياء) ازدهرت الحركات الإسلامية المسلحة، قرب حدود الهند، شمال شرق، بدعم بنغالي.
لذا كانت الإستراتيجية الهندية المتبعة، هي الإبقاء على حزب الشيخة حسينة (رابطة عوامي) في السلطة، وعدم الترحيب بالحزب الوطني البنغالي لأنه مناهض للهند.
إذ "تشعر الهند بالتهديد إذا ما تولى أي حزب آخر غير حزب رابطة عوامي بزعامة حسينة حكم بنغلاديش"، وفق دراسة لمعهد الدراسات العربية الأوراسية 9 يوليو/تموز 2024.
وهو ما يعني أن الهند قلقة من التطورات الأخيرة والثورة على حسينة وتخشى عودة حكم الحزب الوطني البنغالي بصفته أكبر أحزاب المعارضة وله الفرص الأكبر في الفوز بأي انتخابات مقبلة.
وكان والد الشيخ حسينة، "مجيب الرحمن" أول من تعاون مع الهند ضد أبناء جلدته المسلمين وقاد حركة انفصال باكستان الشرقية (بنغلاديش حاليا)، وكان المؤسس ومهندس الدولة الجديدة.
وقد قُتل مع أفراد عائلته بعد حوالي 4 سنوات من إدارته البلاد، في انقلاب عسكري كان مؤشرا لقيام حكم العسكر الذي استمر نحو 16 عاما بعده، قبل أن تعود "حسينة" من المنفى وتعدم 5 من كبار قادة الجيش بتهمة قتل والدها.
وكان مجيب الرحمن من المؤيدين للزعيم محمد علي جناح في انفصال باكستان عن الهند عام 1947.
وفي 23 يونيو 1949، انضم إلى رابطة عوامي وانتخب أمينا مساعدا، ثم سكرتيرا عاما في 9 يوليو 1953.
لكنه قاد انفصال بنغلاديش في 16 ديسمبر 1971 وأصدر المجلس العسكري الباكستاني حكما بالإعدام عليه لذلك، فيما دعمته الهند بالسلاح.
وفي 12 يناير/كانون الثاني 1972 أدى اليمين كأول رئيس وزراء لدولة بنغلاديش التي يعد غالبية سكانها من المسلمين إذ يشكلون 83 بالمئة، و16 بالمئة من الهندوس والبوذيين والمسيحيين، ثم تولى الرئاسة في 15 يناير 1974، وبات زعيم البلاد.
لكن في 15 أغسطس/آب عام 1975، اغتيل مجيب الرحمن وهو في الـ55 من عمره، بالمقر الرئاسي، في انقلاب عسكري على يد ضباط من الجيش.
وكشفت تقارير أنه رفض طلب التنحي عن منصبه، فقتل بالرصاص مع أفراد عائلته، ونجت ابنتاه حسينة والشيخة ريحانة، اللتان كانتا في أوروبا آنذاك.
وبعد عودتهما من منفاهما الاختياري عام 1981، قادت حسينة حزب رابطة عوامي إلى الفوز بانتخابات 1996، وتولت رئاسة الوزراء حتى عام 2001.
وكان القضاء البنغلاديشي قد حكم عام 1998 بإعدام نحو 10 ضباط، وجرى تنفيذ العقوبة في 5 مدانين بمقتل والدها.
وبعد 45 عاما من فرار النقيب السابق في الجيش البنغالي عبد المجيد، ألقي القبض عليه وأعدم عام 2009.
وخلال حكمها، منعت حسنية عام 2013، حزب الجماعة الإسلامية، من المشاركة في الانتخابات، بحجة أن ميثاقه الديني يتعارض مع دستور بنغلاديش العلماني، ليحكم بمفرده لعدة سنوات لاحقة، رغم الاتهامات بتزوير الانتخابات.
وقالت صحيفة "هندوستان تايمز" 5 أغسطس 2024 إنه من المرجح أن تتوجه الشيخة حسينة إلى لندن وقد تطلب اللجوء السياسي، وترافقها شقيقتها ريحانة التي تحمل الجنسية البريطانية.
وبحسب تحليل لمجلة "مسلم ماترز" في 17 يوليو 2024، شهدت بنغلاديش موجة قمع سياسي لا هوادة فيها، لإسكات الحركات الإسلامية والقادة الذين سعوا إلى إحداث التغيير، عقب الربيع العربي 2011.
المجلة التي تهتم بشؤون العالم الإسلامي خاصة في آسيا، أوضحت أن "الشيخة حسينة، تخوفت من الثورات في العالم العربي، لذا بادرت بشن حملة قمعية لمنع الثورة في بلادها".
أوضحت أن الحملة القمعية في بنغلاديش استهدفت في المقام الأول الجماعات الإسلامية، تماما كما حدث في مصر.
إذ كان يُنظر إلى "أي شيء إسلامي" على أنه تهديد لحكم حسينة، خاصة أن فكر علماء الجماعة الإسلامية في البنغال هو فكر مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا، وفق "مسلم ماترز".
وبعد أن نالت بنغلاديش استقلالها عام 1971، استهدفت الحكومة، الجماعة الإسلامية بصفتها خصما سياسيا، تماما كما فعلت الحكومة المصرية مع جماعة الإخوان المسلمين.
وجرى تشكيل ما سُمي "المحكمة الدولية لجرائم بنغلاديش" عام 2010 بحجة محاكمة "مجرمي الحرب" الذين عارضوا استقلالها عام 1971، وكان المستهدف منها أساسا قادة الجماعة الإسلامية ومعارضين آخرين.
وكانت الجماعة الإسلامية قد سعت لتوحيد شرق وغرب باكستان حين ظهرت دعوات استقلال بنغلاديش في شرق باكستان من جانب “مجيب الرحمن”، فحرض الهندوس ضدها.
وخلال حرب تحرير بنغلاديش عام 1971، عارضت الجماعة الإسلامية في شرق باكستان (بنغلاديش الحالية) الاستقلال على أساس الوحدة الإسلامية والخوف من الحرب العنيفة، محذرين من دعم الهند وتمويلها الكامل للانفصال.
وقد بدأت حسينة واجد تصفياتها السياسية ضد الجماعة الإسلامية منذ عام 2013 بحجة أنهم مجرمو حرب رفضوا استقلال بنغلاديش، في حين أن الهدف هو التخلص من التيار الاسلامي.
وكان من أبرز الشخصيات التي اعتقلت وأعدمت أو توفيت داخل السجن من قادة الجماعة الإسلامية حتى الآن سبعة من كبار العلماء، منهم 5 تم إعدامهم شنقا، واثنان توفيا داخل السجن قبل الحكم بإعدامهما.

هل يحكم الجيش؟
لم يقل قائد الجيش البنغلاديشي "واكر الزمان"، وهو يعلن في خطاب تلفزيوني، استقالة وهروب "حسينة" أنه أجبرها على ذلك، بعد تصاعد الاحتجاجات واقترابها من قصر الحكم، لكن وسائل إعلام هندية أكدت ذلك.
القناة الإخبارية الهندية متعددة الجنسيات باللغة الإنجليزية "وي أون نيوز" WION news ذكرت 5 أغسطس 2024 أن "الجنرال واكر الزمان هو المسؤول عن استقالة الشيخة حسينة".
قالت إن "جيش بنغلاديش لعب دورا حاسما في السياسة المليئة بالانتقام في بنغلاديش، من خلال بعض الانقلابات الدموية، والحكم الديكتاتوري، والقتل"، وهو المسؤول عن حملة القمع الوحشية التي شنتها السلطات على الاحتجاجات الطلابية.
تساءل: “هل سيظل واكر في السلطة لفترة طويلة، أم يفسح المجال لحكومة مؤقتة، تليها انتخابات منظمة وسلمية؟”
شبكة التلفزيون الهندية "سي إن إن نيوز 18" نقلت أيضا عن مصادر استخباراتية قولها إن الشيخة حسينة وصلت إلى مدينة أغراتالا في شمال شرق الهند بعد فرارها و"تدخل الجيش لإجبارها على مغادرة البلاد والاستقالة".
زعمت في تقرير نشرته 5 أغسطس 2024، نقلا عن مصادر استخباراتية هندية بارزة أن هناك "مؤامرة من قبل المخابرات الباكستانية لإزاحة الشيخة حسينة في ظل سعي باكستان لتشكيل حكومة معادية للهند في بنغلاديش".
وقالت المصادر إن "المخابرات الباكستانية تشعر بأن حكومة رابطة عوامي مدعومة من الهند ويجب إزالتها"، في تلميح لضغوط باكستانية وراء إجبارها على مغادرة السلطة.
وزعمت هذه المصادر الاستخباراتية رفيعة المستوى لشبكة CNN-News18 أن "وكالة الاستخبارات الباكستانية تستخدم الطلاب لخلق التوتر في بنغلاديش حيث تريد تأسيس حكومة معادية للهند من خلال إزاحة الشيخة حسينة".
كما ادعت وجود "خلايا نائمة تابعة لوكالة الاستخبارات الباكستانية كانت تعمل بدوام كامل في دكا لإزاحة حسينة".
وبينت أن جهاز المخابرات الباكستاني استخدم الجماعة الطلابية المعارضة "شاترا شيفير"، القريبة جدا من باكستان، ليفاقم الأزمة في دكا، وقدم لها تمويلا سريا.
وبعد أكثر من شهر من توليه منصب قائد الجيش في بنغلاديش، برز الجنرال واكر الزمان إلى دائرة الضوء عندما أعلن استقالة حسينة التي فرت من البلاد، وقال إنه تقرر تشكيل حكومة مؤقتة.
ولم يتضح بعد ما إذا كان الجيش سيلعب دورا في هذا الأمر، لكن زمان قال: "سنذهب الآن إلى الرئيس (محمد شهاب الدين)، حيث سنناقش تشكيل الحكومة المؤقتة، وإدارة البلاد".
لكنه قال في خطابه إنه "سيتولى المسؤولية كاملة" بعد استقالة حسينة وفرارها من البلاد، وسينسق لتشكيل حكومة مؤقتة مع زعماء الأحزاب السياسية الرئيسة، باستثناء "حزب رابطة عوامي" الذي حكم البلاد وكانت تتزعمه الشيخة واجد، كان خطوة طبيعية.
إذ "إن البلاد تمر بمرحلة ثورية"، كما قال الجنرال "زمان" (58 عاما)، والذي تولى منصب قائد الجيش في 23 يونيو/حزيران 2024.
لكن مطالبته للثوار: "أن تثقوا في جيش البلاد، وتعودوا لمنازلهم أثارت قلق البعض من أن ينتقل الحكم للعسكر، حيث شهدت البلاد من قبل فترة حكم عسكري استمرت 12 عاما.
لذا أثيرت تكهنات ومخاوف من أن يعقب انتهاء حقبة عائلة “مجيب الرحمن”، عودة الجيش للحكم مباشرة أو عبر صيغ أخرى.
ربما منها عودة غريمة حسينة، الديكتاتورة "خالدة ضياء"، المؤيدة لحكم الجيش، في انتخابات مقبلة، بعدما أطلق الرئيس محمد شهاب الدين سراحها من الاعتقال الذي فرضته عليها رئيسة الوزراء الهاربة.
ويتمتع الجيش بنفوذ سياسي كبير في بنغلاديش التي واجهت أكثر من 20 انقلابا أو محاولة انقلاب منذ الاستقلال في عام 1971.
لكن لم يتضح إذا ما كانت استقالة حسينة أو تولي قائد الجيش السلطة مؤقتا سيتبعها دور للعسكر في مستقبل البلاد أم لا؟