بعدما تجاهلته لسنوات.. لماذا بدأت أوروبا الآن التحقيق بفساد حكام لبنان؟

لندن - الاستقلال | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

أمام الانسداد السياسي والطائفي في لبنان بشأن تسمية رئيس جمهورية جديد، وصلاحيات حكومة تسيير الأعمال المحدودة، وتفاقم حدة الأزمة الاقتصادية، يبدو أن الغرب عازم على الاشتباك أكثر مع هذا المشهد المعقد، لتحقيق عدة أهداف.

وفي خطوة متقدمة، قرر الاتحاد الأوروبي إرسال محققين إلى لبنان، للتحقيق بشأن ثروة حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، وفق ما أكد مسؤول قضائي محلي لوكالتي "رويترز" و"فرانس برس" في 27 ديسمبر/ كانون الأول 2022.

تحقيقات أوروبية

وأوضح المسؤول القضائي اللبناني، طالبا عدم الكشف عن اسمه كونه غير مخول الحديث للإعلام، أن وفودا تضم مدعين عامين وقضاة تحقيق ومدعين عامين ماليين من ألمانيا ولوكسمبورغ وفرنسا ستصل إلى بيروت تباعا بين 9 و20 يناير/ كانون الثاني 2022.

وتهدف الزيارة؛ إلى استكمال تحقيقات عالقة في قضايا مالية مرتبطة بسلامة البالغ من العمر 73 عاما والذي يحكم المصرف منذ عام 1993 وتدور حولها شبهات فساد مالي وسياسي، إضافة إلى مسؤولين ماليين آخرين بينهم مدراء مصارف.

وأضاف المسؤول أن السلطات المعنية في الدول الثلاث أبلغت النائب العام التمييزي في لبنان غسان عويدات أنها تنوي "التحقيق مع سلامة ومسؤولين في مصرف لبنان ومدراء مصارف تجارية".

وأشار إلى أن الوفود القضائية لم تطلب مساعدة القضاء اللبناني "بل جل ما فعلوه هو إخطار لبنان بمواعيد وصول الوفود وتاريخ الاستجوابات التي سيجرونها، وأسماء الذين سيخضعون للتحقيق، وبينهم سلامة.

في مارس/ آذار 2022 صادرت فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ ممتلكات وجمدت أصولا قيمتها 130 مليون دولار في عملية مرتبطة بتحقيق أطلقه محققون فرنسيون في ثروة سلامة الشخصية وقضايا تبييض أموال واختلاس في لبنان.

وعدا عن كون سلامة يعد في "أعلى قمة هرم العصابة السياسية الفاسدة" في لبنان، ويحمله الشارع المسؤولية عن خسائر النظام المالي الذي يديره منذ 28 عاما، إلا أنه يقف خلفه سياسيون ورجال أعمال من مختلف الأحزاب السياسية والطوائف اللبنانية.

وتسهم مصالح هؤلاء مجتمعة في تثبيت سلامة في مكانه كحاكم للمصرف، لضمان عدم انهيار "منظومة الفساد المالية" التي تذوب تحتها الشعارات الحزبية في هذا البلد القائم على التركيبة الطائفية.

وتعصف بلبنان أزمة اقتصادية خانقة منذ عام 2019 تسببت في إلقاء نحو 80 بالمئة من المواطنين في براثن الفقر.

ضربة لسلامة

وقبل الكشف عن زيارة المحققين الأوربيين، هز الأوساط اللبنانية، في 9 ديسمبر 2022، التحقيق مع الممثلة ستيفاني صليبا بصفة شاهدة في ملف تبييض أموال وإثراء غير مشروع مرتبط برياض سلامة، وفق ما أفاد القضاء اللبناني.

ويأتي استجواب صليبا في إطار تحقيقات تجريها المدعية العامة في جبل لبنان منذ أبريل/ نيسان 2022، بعد الادعاء على سلامة وشقيقه بجرم "الإثراء غير المشروع وتبييض الأموال".

وتتحدث وسائل إعلام محلية عن تلقي صليبا البالغة من العمر 35 عاما هدايا باهظة من حاكم المصرف المركزي، وسط أحاديث عن ارتباطها مع بـ"علاقة شخصية".

وبحسب صحيفة "الأخبار" اللبنانية، فإن صليبا قامت بتحويل نحو نصف مليون دولار من أحد المصارف في بيروت إلى حسابها خارج لبنان، في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، بقرار من حاكم المصرف المركزي، رغم قيود صرف الحولات البنكية المتواصلة والتي تثير جدلا كبيرا بالبلاد.

وكشفت التحقيقات بعد طلب "نفي ملكية" من الدوائر العقارية، أن صليبا تمتلك خمسة عقارات مسجلة باسمها في مناطق المدور والعطشانة وغزير بلبنان، وتقيم في شقة مطلة على البحر بمنطقة "زيتونة باي" ببيروت يقدر إيجارها الشهري بـ25 ألف دولار.

وجاء توقيف صليبا، بعد أقل من أسبوعين من توجيه باريس اتهاما إلى سيدة أوكرانية مقربة من سلامة، بتهم "تكوين منظمة إجرامية، وغسل أموال منظم، وغسل احتيال ضريبي خطير"، وفق ما أفاد مصدر قضائي فرنسي.

وجرى توجيه التهم إلى الأوكرانية (لم يذكر اسمها) في إطار تحقيق حول ثروة سلامة في فرنسا التي يشتبه أنه جمعها من طريق الاحتيال، وفق المصدر القضائي ذاته.

وتحقق سويسرا منذ نحو عامين بعمليات اختلاس أموال "تضر بمصرف لبنان" يشتبه بوقوف سلامة وشقيقه خلفها وقدرت بأكثر من 300 مليون دولار. بينما يحقق القضاء المالي الفرنسي في ثروة سلامة، منذ يوليو 2021.

وفي 28 مارس 2022، أعلنت وحدة التعاون القضائي الأوروبية "يوروجاست" أن فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ جمدت 120 مليون يورو من الأصول اللبنانية إثر تحقيق استهدف سلامة وأربعة من المقربين منه بتهم تبييض أموال واختلاس أموال عامة في لبنان بقيمة أكثر من 330 مليون دولار و5 ملايين يورو على التوالي، بين 2002 و2021.

وطالما نفى سلامة الاتهامات الموجهة إليه، ويرى أن ملاحقته تأتي في سياق عملية لتشويه صورته.

ورغم الشكاوى والاستدعاءات والتحقيقات ومنع السفر الصادر بحقه في لبنان، لا يزال سلامة في منصبه، ما جعله أحد أطول حكام المصارف المركزية عهدا في العالم.

لكن من المفترض أن تنتهي ولايته في مايو/ أيار 2023.

سجال قضائي

وفي هذه الأثناء، يدور سجال حاد في لبنان، حول ماهية عمل المحققين الأوروبيين، إذ يصر القضاء اللبناني، على معرفة الآليات التي ستتبع خلال الزيارة، ويشترك أن يكون معبرا رئيسا في أي عملية تحقيق مع مسؤولين لبنانيين.

وهناك من يرى أن الزيارة المرتقبة للمحققين الأوروبيين، "محاولة وضع اليد الدولية على القضاء اللبناني"، بمعنى فرص الوصاية القضائية على هذا البلد.

بينما يذهب فريق آخر إلى أنها خطوة لا تنتهك سيادة القضاء اللبناني، لا سيما أنها داخلة من باب الاتفاقات التي أبرمها لبنان مع هذه الدول والتي تسمح بالتعاون القضائي.

إذ يستطيع المحققون استجواب أي مواطن متهم بجرم جزائي على الأراضي اللبنانية حتى في الحالات التي يحصل فيها الجرم خارج البلاد.

وكان القضاء اللبناني ضمن ضحايا كثيرين للأزمة المالية المستمرة منذ ثلاث سنوات، حيث هوت قيمة رواتب القضاة من عدة آلاف من الدولارات الأميركية قبل الأزمة في 2019 إلى بضع مئات اليوم.

واستقال عدد من القضاة الكبار منذ عام 2021 وأرجعوا ذلك إلى ظروف المعيشة والاحباط بسبب عرقلة قضايا كبيرة، في مقدمتها الانفجار الذي وقع بمرفأ بيروت في أغسطس 2020 وأسفر عن مقتل أكثر من 215 شخصا، من قبل الأحزاب النافذة.

وأكد رئيس مجلس القضاء الأعلى اللبناني سهيل عبود، في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، أن تدخل القيادة السياسية في عمل القضاء أدى إلى فوضى تحتاج إلى "ثورة في المقاربات"، وذلك في انتقاد علني نادر للنخب الحاكمة.

وقال عبود في كلمة مذاعة تلفزيونيا: "لا قضاء مستقلا من دون تفعيل لعمل المحاكم وللملاحقات القضائية، ومن دون استكمال التحقيق في انفجار مرفأ بيروت".

وفي هذا السياق، أكد القانوني إلياس دياب لـ"الاستقلال" أنه :"لا يمكن تجريد قدوم المحققين الأوربيين في هذا التوقيت الحرج إلى لبنان من أي أبعاد سياسية في ظل اختطاف الدولة وإصرار بعض القوى على إبقاء شكل المنظومة كما هو عليه وإن كان بتغيير بعض الوجوه فقط".

وأضاف: "لذلك فإن هناك خشية في أوساط الطبقة الفاسدة من أن يخرج الأمر من يد القضاء المحلي ليصبح بيد الأوروبيين، وبالتالي فإن المعركة القضائية اللبنانية الأوروبية ستشتد في ظل رغبة قضاة لبنانيين بأن تمر الاستجوابات عبرهم".

وأردف دياب قائلا إن "القضية متعلقة بجرائم مالية لا لبس فيها حصلت على الأراضي الألمانية ودول أوروبية أخرى، وعلى بيروت التعاون طبقا للمعاهدات الموقع عليها في هذا الصدد، بعدما عجز القضاء المحلي في التقدم قيد أنملة في التحقيق وإدانة واحدا من أسماء الفساد المالي المطروحة".

فضلا عن أن "رأي الدول الثلاث وتقييمهم في تعاون القضاء اللبناني في التحقيق مع هؤلاء الفاسدين، سيكون البطاقة الخضراء لتسهيل مفاوضات لبنان مع صندوق النقد الدولي بدعم أوروبي مشفوع بوعود القروض والمساعدات التي يتطلع لها لبنان لإنقاذه ماليا"، وفق دياب.

الخشية الكبرى

من جانبه، يرى رئيس تحرير صحيفة "نداء الوطن" اللبنانية بشارة شربل، أنه من وصفهم بـ"المتطيرين" من قدوم المحققين "في لصوصية رياض سلامة وتواطؤ مساعديه وتبييضه الأموال عبر شقيق أو عشيق، ليس همهم رأس حاكم مصرف لبنان، بل يخشون (صندوق الباندورا) إذا انفتح"، وهو صندوق بداخله كل الشرور البشرية وفق الميثولوجيا الإغريقية.

وأضاف في مقالة منشورة بالموقع في 29 ديسمبر: "فالحاكم منذ ثلاثة عقود مفتاح وحامل أسرار فساد المنظومة من الألف إلى الياء، عبره جرى تمويل الصفقات، وإسكات من أرادوا حصة من مغانم اتفاقات التراضي، وتوزيع قروض هالكة لشراء الولاء".

 وزاد بالقول: "وعبره جرى التربح بالفوائد الفلكية والاستفادة المجرمة من المعلومات الخاصة الداخلية، وهو الراشي الأول لأهل الرأي ومؤسساتهم ليجملوا ارتكاباته وينظموا الحملات ضد معارضيه وليسكتوا عن الفضائح ويشاركوا بالتآمر على مواطنيهم الضعفاء".

وأشار شربل إلى أن أكثر ما يخشاه الرافضون لقدوم هؤلاء المحققين، هو "أن يشكل التحقيق الأوروبي فاتحة لتحقيقات تطال جريمة العصر في مرفأ بيروت أو تفتح أبواب ملفات الجرائم الموصدة بإحكام، وهي خط أحمر لدى منظومة اعتادت الإفلات من العقاب".

أما الكاتب الصحفي اللبناني رضوان عقيل، فأرجع في لقاء تلفزيوني بتاريخ 29 ديسمبر، إصرار الأوروبيين للقدوم إلى لبنان "لكون القضاء فيه لم يقم بواجباته المطلوبة حيال حاكمية مصرف لبنان ومعرفة كيف وصلت الأرقام المالية إلى المصارف الأوروبية".

كما عزا عقيل توقيت قدوم هؤلاء المحققين، إلى "الأبعاد السياسية، لجهة دفع الطبقة السياسية على انتخاب رئيس للجمهورية خاصة أن فرنسا تشكل رأس حربة في هذا الملف".

إضافة إلى أن "المصارف الأوروبية لم تسأل سابقا عن مصدر ملايين الدولار القادمة من لبنان إليها، ولذلك أتوقع عدم وصول المحققين لأي نتيجة"، حسب رأي عقيل.

وانتهت فترة رئاسة ميشال عون في 31 أكتوبر 2022، وفشل البرلمان للمرة العاشرة منتصف ديسمبر في انتخاب خلف له لملء الشغور الرئاسي.

وتتهم كتل برلمانية نواب جماعة "حزب الله" وحلفاءها بتعطيل انتخاب رئيس جديد للبلاد، كونهم يريدون رئيس حليف لهم ويحافظ على مصالحهم.

وبجانب الفراغ الرئاسي وفي ظل وجود خلافات، لم يتمكن رئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي منذ يونيو/ حزيران 2022 من تشكيل حكومة جديدة ويستمر في قيادة حكومة تصريف أعمال محدودة الصلاحيات.